الرائحة العتيقة للألم
الظلام الدامس هو ما يغطي أيامي قبل السادسة من عمري. ولحظات قصيرة جدا تبزغ أحيانا في خبايا الذاكرة في الفترة من السادسة إلى العاشرة من عمري. ارتبطت كل هذه الومضات بالألم. أعرف أن الألم هو في الأساس أداة تنبيه. تنبيه من مرض أو من علة تهدد الجسد. ولكنه الآن وبعد هذه السنوات الطويلة أصبح بمثابة تنبيه للذاكرة بالوجع الذي مر وظل. لا أتذكر تماما تاريخ أقدم ذكرى في تلافيف مخي. ولكنني أعرف أن هذا الألم الذي اجتاح جسدي كان بعد وفاة أمي، لأنني أعرف بوضوح أنني كنت نائما على فراش جدتي. هذا السرير كان ذو ملة أو حشية معدنية. ليست ملة على شكل شرائح طولية كما نراها اليوم، ولكن قطعة معدنية واحدة، خيوطها المعدنية متداخلة كخيوط النسيج. كان هذا الفراش انجليزيا اشتراه جدي في عام زواجهما الي لا أعرف على وجه الدقة في أي عام ولكن على الأرجح كان عام 1932. كان جدي إذا في الثالثة والثلاثين من عمره وجدتي في الثانية والعشرين. ظل هذا السرير لسنوات طويلة لعبتنا الأثيرة هند ونبيل وأنا، حيث إننا كنا نقفز فوقه حتى تقترب رؤوسنا إلى السقف، وهذا بفضل هذه الملة المعدنية التي كانت مرنة وكأنها منطة أو ترامبولين. بحثت كثيرا على مدار حياتي لشراء ملة كتلك، ولكنني لم أجد. يبدو أن بريطانيا عندما غابت عنها شموس الاحتلال لم تستكمل إنتاج هذا النسيج المعدني. كان السرير ملاصقا للحائط من جانب، ويقع أمام باب الحجرة مباشرة، مما أتاح مساحة أوسع للحركة داخل الحجرة حتى الشرفة التي تطل على كنيسة سان جوزيف للآباء الفرنسيسكان. وهي الكنيسة التي كانت تعرض برنامجا سينمائيا في قاعتها الرائعة، وكنا نتابع هذا النشاط السينمائي باهتمام، وكانت خالتي هدى تقوم أحيانا بترجمة الأفلام الناطقة بالفرنسية والانجليزية إلى المصرية ممسكة بميكروفون. لم تكن جدتي تنام معي في فراشها في هذه اللحظة. أو لا أتذكر ذلك. منحتني فراشها الوثير ولا أعرف أين كانت تنام. كان الألم يعتصر حلقي. لم أكن قادرا على ابتلاع الطعام، وأظن أن رقبتي تضخمت. كان ألما لا يحتمل. كان يمكنني فقط أن أشرب سوائل دافئة، كانت تنزل من حلقي كالنار تحرق ما تمر عليه. ما زال الألم عالقا من حينها وراء لساني. كنت ربما في السابعة أو في الثامنة من عمري. أتذكر هدى تقف بجوار الفراش وأنا نائم بلا قوى وفي يدها كوب تضع فيه الملعقة ثم تضع طرف الملعقة على فمي وأنا أرجوها أن تكتفي لأنني غير قادر على تحمل مزيد من الألم. على نفس هذا الفراش وبعدها بنحو عام كنت أيضا أتجرع ألم من نوع آخر ما زال معي هو الآخر. كنا قبلها ذهبنا لقضاء يوم جمعة على حمام سباحة أحد الفنادق. أظنها كانت موضة في هذه الأيام أن تستأجر حجرة تطل على حمام سباحة فندق لمدة يوم واحد، ينتهي في الخامسة بعد الظهر. نقضي اليوم بين السباحة والاستمتاع بالشمس ومشاهدة ناس جديدة لا نعرفهم، وفي الواحدة ظهرا كنا نتوجه إلى المطعم للغذاء. في هذ اليوم، وأظن إننا كنا في فندق هيلتون، ونتيجة لعدم درايتي، قفزت برأسي داخل حمام السباحة من ناحية الأطفال، فرشقت بجبهتي في أرضية الحمام وأغمى عليَّ. لا أتذكر ما حدث لي. فحسب ما بقي في الذاكرة، أصبح المشهد التالي: أنا مستلقي في نفس الفراش، ارتفعت درجة حرارتي إلى الأربعين. وهناك خيالات لا أعرف أن كانت بفضل ما حكاه لي أهلي لاحقا، وقام مخي ببناء صور وتركيبها ثم تم وضعها في تلافيف المخ كشريط قمت بإخراجه، أم إنها خيالات من الذاكرة الحية. وهو مشهد الدكتور عبود، الذي سوف أكتب عنه لاحقا، يقف أمام الفراش، ويطلب من جدتي أن تفتح باب الشرفة وتغلق باب الحجرة، وجدتي ترفض قائلة: كيف أفتح باب الشرفة والولد جبهته حرارتها كالنار. فيسألها دكتور عبود وهل تبادلنا الأدوار وأصبحت أنت الطبيبة وأنا جدته. ثم يأمرها بحسم أن تفتح باب الشرفة. قال الفنان التشكيلي الفرنسي بيير اوجست رنوار: “إن الألم يمر ويبقى الجمال”. ولكن يبدو أن الألم هو الذي يبقى، ودعوني أتمنى أن الجمال يبقى هو الآخر.